عملت الادارة الأميركية المنتهية ولايتها خلال الأشهر الاخيرة على التحضير لارضية شاملة من المصالحات العربية والعربية الاسرائيلية بين التطبيع الذي سلك طريقه وصولاً الى الملف الأكثر تجاذباً خليجيا في السنوات الأخيرة «الخلاف مع قطر»، والسبب أبعد من تحديات وإشكاليات ظرفية ادت لهذا الافتراق «الارادي» انما هو فراق «لا إرادي» طلبته الادارة الأميركية لغايات تكتيكية تختص بإدارة العلاقة مع العالم الاسلامي وتحديدا «السني»، حيث اشتدت الشوارع وتزاحمت بين تركيا والسعودية مع احتفاظ الاثنتين بالمكانة الاستراتيجية لدى واشنطن عملاً بالمحافظة على التموضع تحت المظلة الأميركية.
الخلاف بين السعودية وقطر تحديداً أرادته واشنطن للبناء على مساحات اوسع من ادارة العملية السياسية والاقتصادية في المنطقة في مرحلة ترامب. فخيوط هذا الخلاف اسست لتوقع المزيد من الحروب والمزيد من الاسواق المنافسة ومن دون أدنى شك أظهر الرئيس ترامب ذكاء و«دهاء» في التنسيق بين الخطوط الحمر لهذا التوتر وبعدم الوصول الى حافة الهاوية كتداعيات لهذا الخلاف. فاستفاد من سوق السلاح والبيع والتجارة والصفقات الاقتصادية من جهة، ومن ترك هوامش للرسائل والتجاذب مع ايران عبر حلفائه تركيا وقطر من جهة أخرى.
لم تكن الآفاق ولا الرسائل مقطوعة بين الإدارتين الأميركية والإيرانية بين الملف السوري والعراقي تحديداً ولطالما فتحت القنوات الروسية – التركية لنقل المواقف الإيرانية للأميركيين، ومن جهة مقابلة لطالما لعبت قطر دور الوسيط في الساحات الأقرب لإيران والتي لا تريد واشنطن العبور بها خارج فلكها. وهي غالبا ساحات يصعب على المملكة العربية السعودية الدخول أو العودة إليها بسلاسة وتحديداً منذ ما بعد عام 2011 حيث التقسيم «معنوياً» حاصل، لكن بأشكال مختلفة بين مناطق نفوذ سعودية عربياً ومناطق نفوذ تركية وأخرى تنتظر أطر يعمل فيها وسطاء كسلطنة عمان وقطر وفي بعض الأحيان الكويت.
الإدارة المحترفة لهذه الملفات ليست سوى نتاج عمل أميركي دؤوب للاستفادة من الساحات، لكن مع انكفاء هذا الدور ولمعرفة إدارة ترامب «الجمهورية» بأن الرئيس المنتخب جو بايدن يتّجه نحو التفاوض مع إيران أياً كانت نتائجه أو أشكاله ما يعني حكماً خفض منسوب التوتر بين الخليج وطهران، فإن خطوة مصالحة استباقية بين قطر والسعودية وباقي دول مجلس التعاون هي خطوة بديهية تحمل إشارات جدية اقتراب المحادثات الايرانية الأميركية، وبالتالي تحضير الساحة الخليجية لموقف موحّد يتماهى مع المقبل من التطورات.
أحد الأفرقاء اللبنانيين الذين التقطوا إشارات هذه المصالحة «بنباهة» هو الرئيس سعد الحريري الذي توجه الى تركيا حيث الرئيس رجب طيب أردوغان صاحب العلاقة الجيدة بإيران والممتازة بقطر والمتوترة غالباً بالسعودية، لكن ومن دون أية محاذير هذه المرة توجّه لإعادة تزخيم هذه العلاقة التاريخية مع عائلته وفيها ما فيها من إشارات مباشرة نحو رغبة بفتح أفق التعاون لأكثر من جهة اذا ما شُكلت حكومته المنوطة بمهمة الإنقاذ وبالتالي عدم حصر الدعم بالدول الخليجية وحدها، إلا أن هذا الأفق المفتوح مع تركيا فيه ما فيه من مهمة إنقاذية أخرى للحريري بعد أن نجحت تركيا بجذب جزء من الشارع السني جراء توسّع الخلافات بين الحريري وخصومه خصوصاً في الشمال.
الدخول التركي على خط الأزمة اللبنانية من بوابة إعادة تزخيم العلاقة بين الحريري وأردوغان بدوره ليس أمراً عبثياً فهو واقع ضمن المظلة الأميركية نفسها التي تسمح بهذا الهامش للحريري خصوصاً أن الأخير يدرك تماماً اختلاف العلاقة المقبلة بين إدارة بايدن وإدارة بن سلمان ما يسمح له بحرية حركة أوسع من المرحلة الأكثر قسوة على الحريري وسط الهوامش العريضة التي أنيطت بها المملكة اثناء حكم ترامب والاعتراض والامتعاض الدائمين من مختلف مواقف الحريري وعدم إظهار أي دعم واضح له في أغلب أزماته السياسية والاقتصادية.
وبالتأكيد.. لن يكون لتركيا الدور المباشر بحل الأزمة في لبنان، لكن وبالعودة الى المصالحة الخليجية فإن الدعم التركي ممكن أن يترجم دوراً قطرياً مباشراً في لبنان نظراً لما يمكن ان تشكله قطر من وسيط مقبول لدى اللبنانيين بعد هذه المصالحة أولاً وثانياً لجهة كونها طرفاً مقبولاً لحلفاء إيران في لبنان وتحديداً حزب الله ولتجربة سابقة ناجحة عام 2008.
وعلى أن المليارات العشرة او ما يقاربها التي وُعدت فيها حكومة الرئيس حسان دياب حسب مصادر موثوقة أكدت لـ «البناء» التوصل الى مرحلة مهمة من المفاوضات بالأشهر السابقة مقابل الاهتمام القطري بملف الغاز في لبنان قبل أن تتوقف المساعي وتنسحب المبادرات فإن الأسئلة حول حل اقتصادي بدعم عربي على غرار دوحة جديد لم يعد بعيداً. فالدوحة 2 بمعناه الاقتصادي هذه المرة ربما يكون أحد منافذ الحلول الإنقاذية المقبولة من مختلف الاطراف في بلد التجاذبات والحساسيات الواقعة بين نفوذ طهران والرياض، خصوصاً أن المعروف أن أي ثقل مالي داعم للمبادرة الفرنسية سيحتاج للجهات الخليجية القادرة على تأمين الدعم المالي الحقيقي والا لن تقوم أي من الدول بتقديم الاموال او القروض للبنان.
الحديث عن تغيير في الادارة الأميركية ليس ضرباً من الخيال او التمادي في التوقع، بل إنه سياق طبيعي للتغيير المقبل في إدارة الديمقراطيين العازمين على تفكيك ألغام ترامب قبل كل شيء وعلى هذا الاساس لن يكون لبنان خارج هذه الخريطة بل إن الحل فيه سيكون أبرز الملفات على الطاولة الأميركية بالمرحلة المقبلة نظراً لملفاته الاكثر استراتيجية منذ ما بعد تحرير عام 2000 وهو ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط ولو استغرقت بعضا من الأشهر.